فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في «سننه» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوه كيف الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما، فإن عمل فيهما عملكم من التجبية وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه، فأْتوه فقالوا: يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما؛ فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس فقال: «يا معشر يهود أخرجوا إليَّ علماءكم»؛ فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلامًا شابًا من أحدثهم سنًا فألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة يقول: «يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة»؟ فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {الله وَأَطِيعُواْ الرسول} إلخ.
وأخرج الحميدي في «مسنده».
وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله أنه قال: زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك فقال: ارسلوا إليّ أعلم رجلين منكم، فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا: بلى، قال: فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل المنّ والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقال أحدهما للآخر: ما أنشدت بمثله قط قالا: نجد ترداد النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهو كذلك فأمر به فرجم.
وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور في الفروع، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام كالإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر.
{وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أي عذابه كما روي عن الحسن وقتادة واختاره الجبائي وأبو مسلم، أو إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه كما قيل وليس بشيء، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجًا أوليًا، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ} فلن تستطيع له {مِنَ الله شَيْئًا} في دفع تلك الفتنة، والفاء جوابية، و{مِنَ الله} متعلق بتملك أو بمحذوف وقع حالًا من {شَيْئًا} لأنه صفته في الأصل أي شيئًا كائنًا من لطف الله تعالى؛ أو بدل الله عز اسمه، و{شَيْئًا} مفعول به لتملك وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولًا مطلقًا، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدًا.
{أولئك} أي المذكورون من المنافقين واليهود، و{مَا} في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارًا، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: {الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} من رجس الكفر وخبث الضلالة، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه ابتداءًا، وفيها كالتي قبلها على أحد التفاسير دليل على فساد قول المعتزلة: إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من العباد، وقول بعضهم: إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان كما قال البلخي لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.
ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال: «معنى {مَّن يُرَدُّ الله فِتْنَتَهُ} من يرد تركه مفتونًا وخذلانه {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا} فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئًا، ومعنى {لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع». انتهى.
وقد تعقبه ابن المنير بقوله: كم يتلجلج والحق أبلج، هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وما أبشع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجع، تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع وإرادة من تنجع؟!.
وليس وراء الله للعبد مطمع. انتهى، وتقصيهم عن ذلك عسير.
{لَهُمْ في الدنيا خِزْىٌ} أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته، وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة وإجلاء بني النضير من ديارهم، وتنكير {خِزْىٌ} للتفخيم وهو مبتدأ و{لَهُمْ} خبره، و{فِى الدنيا} متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب، كأنه قيل: فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل: لهم في الدنيا خزي وكذا الحال في قوله تعالى: {وَلَهُمْ في الآخرة} أي مع الخزي الدنيوي {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع ما أعد لهم فيها، وضمير {لَهُمْ} في الجملتين لأولئك من المنافقين واليهود جميعًا، وقيل: لليهود خاصة، وقيل: {لَهُمْ} إن استأنفت بقوله سبحانه: {وَمِنَ الذين هِادُواْ} وإلا فللفريقين، والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد ولذلك كرر قوله سبحانه: {سماعون لِلْكَذِبِ}. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا...} الآية.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان، ثم يرجع إلى الكفر، فأرشده الله تعالى، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء. فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير. إن حضروا لم ينفعوا، وإن غابوا لم يفقدوا، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم- فقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} فإن الذين يؤسى ويحزن عليهم، من كان معدودا من المؤمنين، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا، وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم ويرتدوا، فإن الإيمان- إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره، ولم يبغ به بدلا.
{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي: اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي: مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي. وهؤلاء الرؤساء المتبعون {لَمْ يَأْتُوكَ} بل أعرضوا عنك، وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن مواضعه، أي: جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا قصدها، لإضلال الخلق ولدفع الحق، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال، المتبعين للمحال، الذين يأتون بكل كذب، لا عقول لهم ولا همم. فلا تبال أيضا إذا لم يتبعوك، لأنهم في غاية النقص، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به.
{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي: هذا قولهم عند محاكمتهم إليك، لا قصد لهم إلا اتباع الهوى.
يقول بعضهم لبعض: إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم، فاقبلوا حكمه، وإن لم يحكم لكم به، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك، وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس.
{وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي: فلذلك صدر منهم ما صدر. فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه، وأنه إن حكم له رضي، وإن لم يحكم له سخط، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به، وافق هواه أو خالفه، فإنه من طهارة القلب، ودل على أن طهارة القلب، سبب لكل خير، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد.
{لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: فضيحة وعار {وَلَهُم فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو: النار وسخط الجبار. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ...} الآية.
استئناف ابتدائي لتهوين تألّب المنافقين واليهود على الكذب والاضطراب في معاملة الرّسول صلى الله عليه وسلم وسوء طواياهم معه، بشرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ممَّا عسى أن يحزنه من طيش اليهود واستخفافهم ونفاق المنافقين.
وافتتح الخطاب بأشرف الصّفات وهي صفة الرّسالة عن الله.
وسبب نزول هذه الآيات حدَث أثناء مدّة نزول هذه السّورة فعقّبت الآيات النّازلة قبلها بها.
وسبب نزول هذه الآية وما أشارت إليه هو ما رواه أبو داوود، والواحدي في «أسباب النّزول»، والطبري في «تفسيره» ما محصّله: أنّ اليهود اختلفوا في حدّ الزاني «حين زنى فيهم رجل بامرأة من أهل خيبر أو أهل فَدَك»، بَين أن يُرجم وبين أن يجلد ويحمَّم اختلافًا ألجأهم إلى أن أرسلوا إلى يهود المدينة أن يحكِّموا رسول الله في شأن ذلك، وقالوا: إنْ حكم بالتّحميم قبِلْنا حكمَه وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه، وأنّ رسول الله قال لأحبارهم بالمدينة: «ما تجدون في التّوراة على من زنى إذا أحْصن»، قالوا: يحمّم ويُجلد ويطاف به، وأنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كذّبهم وأعلمهم بأنّ حكم التّوراة هو الرّجم على من أحصَن، فأنكروا، فأمر بالتّوراة أن تنشر «أي تفتَح طيّاتها وكانوا يلفّونها على عود بشكل اصطواني» وجعَل بعضُهم يقرأها ويضع يده على آية الرجم «أي يقرؤها للّذين يفهمونها» فقال له رسول الله: ارفع يدك فرفع يده فإذا تحتها آية الرّجم، فقال رسول الله: «لأكونَن أوّل من أحيَى حُكم التّوراة» فحكم بأنّ يُرجم الرجل والمرأةُ.
وفي روايات أبي داوود أنّ قوله تعالى: {يأيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر} نزل في شأن ذلك، وكذلك روى الواحدي والطبري.
ولم يذكروا شيئًا يدلّ على سبب الإشارة إلى ذكر المنافقين في صدر هذه الآية بقوله: {من الّذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}.
ولعلّ المنافقين ممّن يبطنون اليهوديّة كانوا مشاركين لليهود في هذه القضية، أو كانوا ينتظرون أن لا يوجد في التّوراة حكم رجم الزّاني فيتّخذوا ذلك عذرًا لإظهار ما أبطنوه من الكفر بعلّة تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.